علامات تدل على الإصابة بمتلازمة الاحتراق النفسي المهني

تُعد متلازمة الاحتراق النفسي المهني (Burnout Syndrome) واحدة من أخطر المشكلات النفسية والاجتماعية التي تصيب العاملين في مختلف القطاعات المهنية، لا سيما في البيئات التي تتطلب جهداً نفسياً وجسدياً متواصلاً أو تلك التي تسودها التوترات والضغوط المرتفعة. وقد أصبحت هذه الظاهرة موضع اهتمام بالغ في السنوات الأخيرة، خاصةً بعد أن اعترفت منظمة الصحة العالمية بها كظاهرة مهنية تؤثر سلباً في الصحة النفسية والجسدية، وتؤدي إلى تراجع الإنتاجية، وزيادة نسب التغيب عن العمل، بل وتفاقم المشاكل الصحية المزمنة.

يحدث الاحتراق النفسي نتيجة تراكم الضغوط المتواصلة في بيئة العمل، إلى الحد الذي يفقد فيه الفرد القدرة على التفاعل بفعالية مع مهامه أو زملائه أو حتى مع ذاته. وعادةً ما يكون التدهور تدريجياً، يبدأ بشعور خفيف بالإرهاق، ويتطور إلى إنهاك كامل عقلي وجسدي، يترافق مع حالة من اللامبالاة والانعزال وفقدان الدافعية.

في هذا المقال، سيتم تسليط الضوء على أبرز العلامات التي تشير إلى الإصابة بمتلازمة الاحتراق النفسي المهني، مع توضيح الفروقات الدقيقة بينها وبين الإرهاق العادي، وذلك لتقديم فهم شامل وعميق لهذه المتلازمة التي تمثل تهديداً حقيقياً على الصحة العامة وجودة الحياة المهنية.

أولاً: الإرهاق الجسدي والنفسي المستمر

من أبرز العلامات الأولية لمتلازمة الاحتراق المهني هو الشعور بالإرهاق المستمر، سواء على المستوى الجسدي أو النفسي. فالمصاب يشعر بتعب دائم لا يزول حتى بعد الراحة أو النوم، ويترافق مع إحساس دائم بالإرهاق الذهني وصعوبة في التركيز.

قد يصاب الفرد بصداع مزمن، وآلام عضلية مستمرة، واضطرابات في الجهاز الهضمي، إضافةً إلى تغيرات في نمط النوم مثل الأرق أو النوم المتقطع. ومن الشائع أيضاً أن يُصاحب هذا الإرهاق فقدان الشهية أو الإفراط في تناول الطعام، نتيجة لتقلبات المزاج التي تطرأ على الحالة النفسية.

ثانياً: انخفاض الأداء المهني وفقدان الحافز

يشهد المصابون بالاحتراق المهني تراجعاً ملحوظاً في قدرتهم على الإنجاز والإنتاجية. إذ تصبح المهام اليومية التي كانت تُنجز بسهولة في السابق عبئاً ثقيلاً، ويشعر الموظف بأنه غير قادر على الاستمرار بنفس الوتيرة.

فقدان الحافز الداخلي هو سمة مميزة لهذه المرحلة، حيث يغيب الشعور بالإنجاز أو الرضا عن العمل، ويبدأ الفرد بالتشكيك في جدوى جهوده، بل وفي أحيان كثيرة ينمو لديه شعور باللاجدوى والتفاهة المرتبطة بالمهام المهنية.

ثالثاً: فقدان الاهتمام والانفصال العاطفي

في هذه المرحلة، يبدأ الموظف بفقدان الاتصال العاطفي مع عمله وزملائه وحتى مع عملائه أو المستفيدين من خدماته. يتحول العمل إلى مجرد روتين ميكانيكي، ويبدأ الشخص في الانعزال شيئاً فشيئاً، مع تراجع التفاعل الاجتماعي والميل إلى الانطواء.

يصبح من الصعب على المصاب إظهار التعاطف مع الآخرين، وتظهر علامات البرود العاطفي وفقدان الحماسة، كما يتوقف عن تقديم أفكار جديدة أو المشاركة في النقاشات الجماعية.

غالباً ما يُترجم هذا الانفصال العاطفي إلى مواقف سلبية، مثل التهكم على بيئة العمل، أو نقد المؤسسة أو الزملاء بطريقة تهكمية تعكس حالة من الإحباط والسخرية المبطنة.

رابعاً: تقلبات المزاج والتهيج المستمر

يُظهر المصابون بالاحتراق المهني حساسية مفرطة تجاه الضغوط الصغيرة، ويصبحون أكثر عرضة للانفجارات المزاجية، مثل الغضب السريع أو البكاء غير المبرر أو الانفعال عند أقل المواقف.

الضغط النفسي المزمن يؤدي إلى خلل في التوازن الكيميائي في الدماغ، خاصةً فيما يتعلق بهرمونات مثل الكورتيزول والسيروتونين، مما يزيد من احتمالية الإصابة بالقلق أو الاكتئاب.

التهيج المزمن لا يقتصر على بيئة العمل فقط، بل يمتد ليشمل الحياة الشخصية، حيث يشعر المحيطون بالمصاب بتغيرات سلوكية حادة، كفقدان القدرة على التواصل بشكل صحي، والانفعال السريع، والنفور من العلاقات الاجتماعية.

خامساً: الميل إلى السلبية والتشاؤم وفقدان الثقة بالنفس

من المظاهر النفسية العميقة التي تصاحب متلازمة الاحتراق المهني، النظرة السلبية للحياة والعمل والذات. يصبح كل شيء عبئاً ثقيلاً، وتفقد الأمور بريقها، وتتراجع القدرة على رؤية الإيجابيات أو التفاعل معها.

يترافق ذلك مع تدهور واضح في تقدير الذات، حيث يشعر الفرد بأنه غير كفء، أو أنه لا يستحق التقدير، أو أن جهوده لا تُؤتي ثمارها. وقد تظهر أفكار سوداوية مثل “أنا فاشل”، “ما أقوم به لا فائدة منه”، أو “لا أحد يهتم بوجودي”.

سادساً: اضطرابات النوم والميل إلى العزلة

تتسبب متلازمة الاحتراق المهني في اضطرابات واضحة في نمط النوم، منها الأرق، أو الاستيقاظ المتكرر أثناء الليل، أو النوم المفرط مع شعور دائم بعدم الاكتفاء.

ويزداد الأمر تعقيداً حين يصاحب ذلك انسحاب اجتماعي حاد، إذ يبدأ المصاب بتجنب اللقاءات الاجتماعية، ويفضل العزلة في أوقات الفراغ، ويجد صعوبة في بناء أو الحفاظ على علاقات شخصية صحية.

سابعاً: ضعف جهاز المناعة وزيادة الأمراض الجسدية

أثبتت الدراسات أن الاحتراق النفسي يؤثر سلباً على جهاز المناعة، مما يجعل الفرد أكثر عرضة للإصابة بالأمراض. فالأشخاص الذين يعانون من مستويات مرتفعة من التوتر المزمن هم أكثر عُرضة للعدوى الفيروسية والبكتيرية، كما أنهم يشفون من الأمراض بوتيرة أبطأ من غيرهم.

بالإضافة إلى ذلك، هناك علاقة مثبتة بين الاحتراق المهني وظهور أعراض مثل ارتفاع ضغط الدم، والسكري من النوع الثاني، وأمراض القلب والأوعية الدموية.

ويظهر في كثير من الأحيان ما يُعرف بـ”الأعراض النفسجسدية”، وهي أعراض جسدية لا تملك أساساً عضوياً واضحاً، مثل آلام المعدة، والقولون العصبي، وضيق التنفس، وآلام الظهر المستمرة.

ثامناً: التردد في الذهاب إلى العمل والتغيب المتكرر

يتطور الاحتراق المهني في بعض الحالات إلى رفض غير مباشر لمكان العمل، يتجسد في التردد اليومي في الذهاب إليه، أو اختلاق الأعذار للتغيب، أو المماطلة في الوصول صباحاً.

وقد يفضل المصاب تجنب المهام الحساسة أو الصعبة، أو يُهمل واجباته عن قصد أو دون وعي، في محاولة لا شعورية للهروب من الضغط.

تاسعاً: التعود على الإنهاك واعتباره نمطاً طبيعياً

من أخطر مظاهر الاحتراق المهني هو التعود على الشعور بالإنهاك واللامبالاة، واعتباره أمراً طبيعياً أو جزءاً لا يتجزأ من “العمل الجاد”. فالكثير من الموظفين لا يدركون أنهم يعانون من متلازمة نفسية، ويستمرون في الضغط على أنفسهم تحت ذريعة الطموح أو الالتزام المهني.

هذا التكيف الخاطئ يعمّق الأزمة ويؤدي إلى مضاعفات صحية خطيرة، ويحول دون اللجوء إلى الدعم المناسب في الوقت الملائم.

عاشراً: ضعف الإبداع وانعدام الابتكار

مع تفاقم الاحتراق النفسي، تتراجع القدرات الإبداعية، ويقل الحافز لتقديم أفكار جديدة أو حلول مبتكرة. يصبح الفرد أسيراً للروتين، يفتقد المرونة العقلية، ويجد صعوبة في التفاعل مع التغيرات أو التعامل مع المواقف الطارئة.

وتصبح بيئة العمل بالنسبة له مكاناً خانقاً يفتقر إلى الإلهام، وتفقد المهام اليومية أي بُعد تحفيزي أو تحدٍّ يستحق الاهتمام.

جدول يوضح الفرق بين الإرهاق العادي ومتلازمة الاحتراق المهني

الخلاصة

متلازمة الاحتراق النفسي المهني ليست مجرد شعور مؤقت بالتعب، بل حالة نفسية متكاملة تتسلل ببطء إلى حياة الإنسان، وتؤثر سلباً في أدائه، وصحته، وعلاقاته، ورفاهيته العامة. وإن التوعية بعلاماتها وخصائصها تمثل الخطوة الأولى نحو الوقاية والتعامل معها بفعالية.

الفهم الصحيح لهذه الظاهرة يسمح للأفراد والمؤسسات معاً باتخاذ التدابير المناسبة لتقليل الضغوط، وتحسين بيئة العمل، وتعزيز الصحة النفسية للموظفين، وبالتالي رفع جودة الحياة المهنية والشخصية على حد سواء.

المراجع:

1. Maslach, C., & Leiter, M. P. (2016). Understanding the burnout experience: recent research and its implications for psychiatry. World Psychiatry, 15(2), 103–111.

2. World Health Organization. (2019). Burn-out an “occupational phenomenon”: International Classification of Diseases.